المسحراتي: حكايات الثورة العربية الكبرى
Name:
Location: United States

10/17/06

حكايات الثورة العربية الكبرى

وعاد في صمت إلى مزرعة
بقلم محمد المجذوب
لم يذق طعم النوم قط. إنه يتقلب على فراشه الضيق الخشن منذ أوى إليه عند منصف الليل.. وقد حاول بكل طاقته إخلاص فكره من ذلك التشويش القلق الذي يراوده





ولكن عبثاً.. لقد كانت محولاته وسيلة أخرى لإطلاق مقادير غير متوقعة من ذلك التشويش
فهو لا يتغلب على بعضها حتى يحتويه بعضها الآخر.. وراح يحدق عبر الظلام لعله يلمح شيئاً يصرفه عن أوهامه التي لم يستطع لها تحديداً ولا توضيحاً.. فيرتد بصره حسيراً، إذْ لا يرى سوى تلك الخيام المنتشرة في بطن هذه الصحراء الممتدة حول ( معان ) .. وقد سكن كل شيء فيها إلا أقدام الحراس تتحرك هنا وهناك، فتطلق ما يشبه الحديث المهموس..وفجأة هب من فراشه، وكأنما هز قلبه خاطر.. ومدّ يديه يتلمس قربة الماء على عمود الخيمة ثم أخذ يصب منها على يديه ووجهه، حتى إذا أسبغ وضوءه، عمد إلى غطائه فبسطه ثم أقبل يصلي فوقه



وما إن أتم ركعتيه حتى أتبعهما بأُخْرَيَيْنِ.. ولم يشأ أن يزعج الراقدين من زملائه في الخيام المجاورة، فلم يجهر بقراءته، على الرغم مما وجده من شوق إلى ذلك، إذ أحس في تلك الركعات نشوة لا يذكر أنّه تذوّق مثلها من قبل.. ولعل ذلك عائد إلى بُعد عهده بصلاة الليل، بل بالصلاة كلها، التي كاد يقطع بها صلته، منذ ساقته الأقدار إلى الاندماج في تلك الجمعية، التي استولت عليه وعلى الكثرة من مواطنين الدمشقيين، الذين كانوا يتلقون علومهم العسكرية في عاصمة الخلافة..لقد نشأ فخري.. في وسط إسلامي محافظ، وبدأ دروسه الأولى على أيدي الفضلاء من مشايخ دمشق، الذين عليهم قرأ القرآن، وباشر مطالعة الحديث، وتلقى مبادئ الفقه، فلما التحق بالمدارس الرسمية لم يبتعد عن هذا الجو النقي، إذ كانت مناهجها ذات صلة وثيقة بتلك المعاني


واستمر في هذه السبيل حتى انتقل إلى استانبول.. وهناك فقط بدأ يتحلل من تلك الروابط الروحية، إذ وجه نفسه مأخوذاً بصحبة شباب ذوي ثقافة أخرى، يتلقونها في اجتماعاتهم الخاصة، على أيدي رجال عادوا من أوروبة حديثاً، مزودين بمفهومات عن الدولة والقومية والتطور لم يستطع مقاومة إغرائها، فإذا هو ينساق في تيارهم شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد يحس بأي قلق إذا هو أخرّ وقت صلاته، أو أغفلها كلياً..وساقته الذكريات المتفاعلة إلى أمسه البعيد.. إلى أيام استانبول تلك.. وما سبقها.. فإذا هو يستعيد، على غير توقع، بعض ما فقده من ذلك الروح الذي أشرق على قلبه لأول مرة في دمشق، التي يذوب حنيناً إلى لقائها.. والتي كان إلى وقت قريب على مثل اليقين أنه يكدح من أجلها.. من أجل استرداد جلالها، الذي تألقت به تاجاً على مفرق الدنيا أيام معاوية وخلفائه



ثم جاءت الكوارث تضرب في أكنافها، حتى جردتها من عزة السلطان، وجعلتها ذيلاً لغيرها من العواصم..ثم لم تكتفِ حتى أتت على سيادة الجنس العربي كله، إذ انتزعت منه زمام القيادة، لتضعه في أكف الغرباء من هؤلاء الأتراك الذين خرج عليهم مع هؤلاء الخارجين من إخوانه وأبناء جلدته..وأطرق فخري يتأمل خلال هذه الأحداث، فلا يتمالك أن يتمتم في حيرة لا يستطيع كتمانها: أحقاً نحن في الطريق إلى عزة العرب!…وتتفجر التساؤلات الحائرة متتابعة وراء ذلك:- أليس من سبيل لهذه العزة إلا بالخروج على دولة الخلافة؟..- والخروج على الخلافة.. أليس خروجاً على الإسلام؟..- وهل صحيح أن العروبة حقيقة مجردة عن الإسلام؟..- ولماذا نقاتل دولة الخلافة مع الإنجليز؟.. مع ألد أعداء الإسلام؟..واستحال عليه أن يجد جواباً حاسماً لأي من هذه الأسئلة، ومن هنا تفاقمت حيرته



وانطلق خياله يحوك له أشباح الأحداث في صورة مثيرة لا يقع فيها على ما يَسُر..إنه ليتذكر الآن المشهد الذي واجهه ذات يوم في تصرفات ( لورنس ).. ذاك الذي يصر على أن يلقب بصديق العرب.. إذ كان يشرف على نسف الخطوط الحديدية بأيدي جنوده من العرب المسلمين، فما إن يقتلعون منها قطعة حتى تضج كفاه بالتصفيق لهم، وما إن ينسفون جسراً حتى يقبل على مفجري ألغامه يعانقهم، ويمطر بالقبلات الحارة رؤوسهم.. ولا يكتفي بهذا حتى يطرح نفسه فوق أطلال تلك الخرائب، كأنه يهب لها أيضاً نصيبها من قبلاته!.. ولمَ كل هذا الفرح؟!..ولأول مرة يحرك فخري شفتيه بهذا الجواب: لأن لورنس كان يعلم أنه يسجل بكل ضربة لهذا المشروع انتصاراً للصليبية المطاردة للإسلام!..أليست سكة حديد الحجاز هذه هي الرباط العصري الذي يشد أجزاء الوطن الإسلامي إلى مركز الخلافة؟.. أليست هي الخطوة الكبرى والأولى في سبيل تعميق وحدة المسلمين، للصمود في وجه القوة الباغية، التي يحركها الحقد الصليبي المزمن لتدمير الإسلام!



ومع ذلك.. يتبرع العرب المسلمون بتحقيق هذه الجريمة تحت قيادة صديقهم ( لورنس ) .. الذي فتنوا به، وبأسلوبه الشيطاني، حتى ليسمون بعض أبنائهم باسمه!..وكانت أشعة الفجر قد بدأت تتمطى وراء الكثبان البعيدة، فتغتسل الصحراء بأضوائه الرمادية الحزينة.. وكأن يداً خفية تجتذب ذراع فخري فينهض من مصلاه ليحرك خطاه خارج خيمته في أناة، ودون أن يحدد لقدميه اتجاهاً.ومرّ ببصره على مئات الخيام القائمة هنا وهناك.. وتذكر أن ألوفا يرقدون الآن تحتها، دون أن يفكروا بالمصير الذي يقادون إليه.. إلا حلماً رقيقاً هو أن يقوم للعرب كيان جديد، يؤمن لكل عربي حياة أفضل..وانتهت الخطى بفخري إلى خارج حدود المعسكر



وتفتقت ذاكرته عن مشاهد جديدة طرية.. لم يحن أوان جفافها بعد..إنه ليتذكر رحلته إلى الهند، يوم أن انتدبه لورانس لتحريك المسلمين من أجل التطوع في صفوف الإنجليز.. فمضى وهو يحسب أنه يقوم بخدمة للثورة العربية، إذ يقدم لحلفائها رافداً من القوة يساعد على التعجيل بنهاية الحرب.. ولكنه ما إن بدأ محاولته مع علماء الإسلام وزعماء المسلمين حتى شرع يواجه الحقيقة التي قد نسيها تماماً..لقد اصطدم بعقبات من الوعي الإسلامي لم تدع له أي أمل بنجاح رحلته..إن المسلمين في الهند - حتى العامة منهم - يعتبرونها معركة بين الإسلام والصليبية، وينظرون إلى الخليفة كرمز لوحة العالم الإسلامي، فالخروج عليه إنما هو خروج من الإسلام إلى الكفر.. إنهم لا ينكرون أن ثمة أخطاء في مسيرة دولة الخلافة، ولكنهم موقنون بأن تصحيحها ليس في تأييد أعدائها.وقد بلغ تشدد مسلمي الهند في هذا الموقف إلى حد أن إرهاب الإنجليز، على قسوته وهوله



لم يحل بينهم وبين الجهر بمبادئهم هذه، وهؤلاء علماؤهم، وفي مقدمتهم مولانا محمد علي، ينهضون بعبء الدعوة للتمرد على الإنجليز، ويعلنون بكل الوسائل وجوب النصرة لإمام المسلمين في هذه الحرب.. ويرفعون الشعار القائل: إن كل متطوع في جيش الإنجليز لحرب الخليفة خارجٌ عن ربقة الإسلام، مرتد عن سبيل المؤمنين.. وقد صدع مولانا محمد علي بذلك حتى أمام المحكمة التي شكلها الإنجليز لمحاكمته وإخوانه من علماء الإسلام، فاتخذ من قفص المحكمة منبراً لإعلان حكم الشريعة الذي لا يقبل رداً ولا نقضاً..لقد عاد فخري من رحلته تلك صفر اليدين لم يصب أي غرض.. بل عاد وفي قلبه تلك التساؤلات التي ما تفتأ تقلقه وتثير أرقه.. وكثيراً ما ردد على نفسه، كلما أتيح له أن يخلو إليها، مثل هذا القول: لماذا كناّ نحن العرب أسرع استجابة لإغواء الإنجليز من مسلمي الهند؟.. لماذا نكون أقل منهم غيرة على حرم الإسلام؟!..وانتزعه من تأملاته خفق نعل متحفظ خلفه



ثم سمع صوتاً يخاطبه في عربية أجنبية: هالو فَكْري.. إلى أين؟..وعرف فخري مخاطبه من لهجته. إنه مدير الاستخبارات الإنجليز جون.. الذي يمتاز على كل من عرفه من أبناء جنسه بصراحته الغريبة..وتوقف فخري ريثما انتهى إليه صاحبه، ورد تحيته، وصافح يده الممدودة، واستأنفا السير معا..ولم يشأ الفتى الشامي أن يخرج عن صمته الذي كان عليه، فلم يسع الكهل السكسوني إلا أن يبدأ هو بالكلام فقال، وهو يلوح بغليونه ليساعده على الاشتعال: أراك مشغول الفكر.. فهل ثمة ما يُزإجك؟!..وصمت فخري قليلاً كأنه يستفتي عقله في الجواب..ثم قال: لا بد..- تَبْأً.. أنت في شوكٍ إلى دمشق.. إتْمئِن .. سوف تدخلها كريباً..- هذا ما أتوقعه بعد انتصاركم على الجيش العثماني في معركة القناة..- تَبْأً.. تَبْأً.. فما الذي يشغلك إذن؟!..- اسمع يا مستر جون.. إني أسأل نفسي عن مصير هذه الشركة بيننا وبينكم..وكأن الكهل السكسوني لم يسمع غير ما توقع.. فلم يبدُ عليه انفعال



وبكل هدوء عقب على كلام الفتى بقوله: على كل حال.. سنظل أسدكاء..وانصرف فخري بوجهه إلى الرجل ليقول له: القضية أكبر من الصداقة يا .. مستر جون .. إني أتساءل عن مصير العهود التي بيننا وبينكم..- كن سريهاً.. يا فكري بك ..- سأكون في منتهى الصراحة.. فهل تعدني بمثلها؟..- نَأمْ.. نَأمْ.. كُلْ ما تريد..- لقد عاهدناكم على القتال بجانبكم، وعلى بذل كل ما نملك لنصرتكم، فوفّينا، وسنفي حتى النهاية، فهل أنتم وافون لنا بما عاهدتمونا؟..وكان في وسع جون أن يستغني بابتسامته عن كلامه، ولكنه آثر أن يحقق ما وعد به من الصراحة فقال، وهو ينظر إلى صاحبه من خلال دخانه: ألْكَدِيّةُ ليست أرَبِيّة فَكَتْ يا .. مستر فَكْرِي.. إنها دولية.. آلمية..إنها تَخُسُّ هُلفاء بريتانيا أيْداً..وفي حرقة لم يطق فخري إخفاءها قال: فمن أجل عيون حلفائكم إذن خرجنا على ديننا، وسفكنا دماءنا، وخربنا ديارنا، وحاربنا إخواننا !!..ولم يستطع أن يملك أعصابه فإذا هو يضرب جبهته بباطن راحته.. وكانت ضربة محكمة كما يبدو، لم تلبث أن انتزعته من حُلمه الثقيل الطويل.. ليجد نفسه على سريره في مزرعته التي لجأ إليهافراراً من التدهور السياسي الذي لم يعد يطيق معايشته



وتناول فخري من خادمه الوفي قدح القهوة وهو لا يزال على فراشه.. وشيئاً فشيئاً استرد كامل وعيه، ولكنه لم يستطع أن ينفض رأسه من آثار تلك الوقائع التي انطوت فوقها صفحات ثلاثة عقود من السنين.. وراح يستعيدها في يقظته، فلا تكاد تزيد عمّا شهده قبل قليل في غفوته.. وسرعان ما اتصلت أحداث ذلك الماضي، النائم في زوايا عقله الباطن، بما تلاها من أحداث لا تزال تلاحقه منذ ذلك اليوم، دون أن يستطيع منها فكاكاً..وترك لخياله أن يعرض من أطيافه ما شاء.. فإذا هو تلقاء شريط لا يكاد يحيط بمضمونه.. إنه ليتابع ذاته المتحركة خلال هاتيك المشاهدات، فيراها مسيّرةً بقوة الاستعمار مع تلك المجموعات الزاحفة باتجاه دمشق.. ثم يرى إلى هذا الفتى وقد غاص إلى أذنيه في مشكلات بلاده، فهو عضو في (كتلة) ألفت بينها وحدة الاتجاه لتحرير الوطن من طغيان هذا الاستعمار، الذي أعقب انتصار الحلفاء ونقضَ الإنجليز لعهودهم التي لم يجف مدادها بعد.. ثم يراه وقد اندفع يثير حمية الشباب ليلهب طاقاتهم في هذه المعركة. وبأسلوبه المرح وسلوكه الشعبي استطاع أن يحقق الكثير، حتى لقد أصبح بحق ( زعيم الشباب ) كما كانوا يلقبونه..وخاض فخري مع رفاقه قادة تلك الكتلة معارك طويلة ضد الفرنسيين، الذين أعلنوا منذ اليوم الأول لاحتلالهم دمشق، وبلسان طاغيتهم الجنرال غورو



إنهم طليعة حملة صليبية جديدة، جاءت لتغيير الواقع الذي فرضه انتصار صلاح الدين على أسلافهم في حطين.. وكانت أصداء هذا التصميم تتجاوب في كل مكان وطئته أقدام الحلفاء من ديار الإسلام، ففي استانبول يدمرون قواعد الخلافة على يد مصطفى كمال، وفي فلسطين يطلق قائد الجيش الإنجليزي ( ألَنبي ) نذيره الدامي بإعلانه الوقح: أن الحروب الصليبية التي بدأها أجداده قبل ثمانية قرون قد انتهت بسحق القوى الإسلامية نهائياً.ولتوكيد هذا التصميم يبدؤون إقامة قواعد الدولة اليهودية في قلب فلسطين الإسلامية، لتكون منطلق الصليبية لتحطيم كل تحرك إسلامي..وهكذا قُدّر لفخري ورفاقه أن يتولوا كُبر هذا النضال، الذي رفع طاقة الشعب السوري إلى القمة.. وقُدّر له تبعاً لذلك أن ينال نصيبه من الاعتقال والتشريد، ثم يعود مع إخوانه لاستئناف الزحف دون هوادة ولا مهادنة، حتى شاء الله أن يحقق الرجاء، فيسلط على المستعمر الفرنسي زميله الإنجليزي بنهاية الحرب العالمية الثانية



فلا يزال هذا يحرض عليه، ويتيح السوريين أن يسوقوا الضربات إليه، حتى غادر الشام خاسئاً مدحورا.. وبذلك تسنى لكتلة أن تفرغ من مرحلة الكفاح إلى مرحلة الحكم، فتقيم الجمهورية - بعد الملكية العابرة - وتمكّن للشعب أن يترجم عن إرادته باختيار نوابه لأول مرة.. فيكوّن ثمة دولة حديثة، تتوفر لها كل وسائل التقدم..ولكن.. هل وجد فخري في ذلك كله ما يخفف القلق الذي ما زال يشحن صدره منذ أيام معان؟؟ وهل استطاعت الزعامة التي تبوأها بعد الاستقلال أن تسكت ذلك القرع الذي ما انفك يدق في جنبات قلبه حتى الآن؟..لقد أدرك فخري ببداهته أن المسيرة قد بدأت من نقطة الخطأ، وكان ذلك منذ آثر العاملون لها استبدال العصبية بالإسلام، فأعانوا أعداءهم على أنفسهم، وركنوا إلى الذين ظلموا فمستهم نار الدنيا قبل نار الآخرة.. إنهم - جميعاً - ليحسون بالأخطار تحدق بهم من كل مكان، وتنذرهم بألوان الحدثان..ولكنكم مع ذلك لا يعرفون سبيل إلى تداركها وصدها.. إنهم مسوقون إلى حيث لا يعلمون.. وإن أقدامهم لتنزلق كل يوم إلى حيث لا يتوقعون ولا يريدون. ومع استيقانهم ذلك كله لا يستطيع التوقف، فهم كالمنحدر في السفح



يرى هول ما هو صائر إليه، ولكنه لا يملك القدرة على اجتنابه…وذات يوم بلغ التوتر أقصاه في أعصاب فخري وفي توقعاته.. فأقبل على رفيقه المسئول الأول يصرخ به: أيها الرجل.. إن الماء يجري من تحتك..ألم تحس به بعد!.. لقد طالما نصحناك وإخوانك بالتخلص من ( القلاع ) التي استبقاها الفرنسيون لتدمير البلد .. فأبيتم أن تسمعوا .. حتى أوشك هي أن تتخلص منكم..إن أخطاءنا اليومية قد فتحت الثغرات أمام الأفكار الهدامة، لتغزو قلب الجيل الناشئ، وتسلحه بكل أدوات التخريب.. فبأي علاج تواجهون هذه السموم؟ .. وبأي سلاح ستصدون هذا الهجوم؟!..إن جهاز الحكم الذي يتكئ على المرتزقة لا يملك صلاحية الصمود طويلاً أمام الأحقاد التي يؤججها التنظيم الحزبي المضلل.. فمتى تفطنون إلى هذا الواقع؟ .. إذا لم ترحموا بلدكم.. فارحموا أنفسكم على الأقل .وكان فخري يهدر بهذه النُذرُ في حماسة طاغية أنسته واجبات المجاملة، وصرفت ذهنه على ملاحظة الأبهةالتي تحيط بمقام الرئاسة.. وبدا في موقفه، وقد صبغت الحمرة عينيه الواسعتين، وتقلصت عضلات وجهه الوردي



وباعد التهيج ما بين يديه، كأنه ملاكم يتحدى خصمه..على أن حماسة فخري لم تغير شيئاً من تفكير الرئيس ولا مَن حوله من خواص رجال الحكم.. وللمرة العشرين - على الأقل - يسمع مثل هذا الجواب الذي لا يزيده إلاّ حَنَقاً ويأساً: هَوِّنْ عليك يا فخري بك.. إن كل شيء على ما يرام..ومنذئذ آلى فخري على نفسه ألاّ يعود إلى مثل ذلك الموقف، وأن يهجر العمل السياسي.. ومن ثم أخذ طريقه في صمت إلى مزرعته، لينفض عن مكتبته غبار الزمن، وليستعيد معها بعض عهده الذي كاد ينساه..وكان فخري غارقاً في مقدمة ابن خلدون عندما انتزعه من غمرته تلك قرع الهاتف الذي أبى أن يسكت، فمدّ يده إليه دون أن يصرف نظره عمّا بين يديه من الكتاب..- آلو.. فخري بك؟..- من حضرتك؟.. وما تريد منه؟..- هنا حسني …- حسني !.. نعم .. عرفتك.. ماذا تريد؟..- أريد أن أراك.. إنني بانتظارك.. هنا في قصر المهاجرين..- في قصر المهاجرين!- نعم يا فخري بك.. في قصر المهاجرين!.. في قصر الرئاسة.- إذن.. هناك انقلاب عسكري!..- نعم انقلاب عسكري.. لقد أنهينا عهد الفوضى.. وقبضنا على أزمة السلطة لإنقاذ البلاد.. إن السيارة في الطريق إليك.. نريد أن ننتفع بآرائك يا .. فخري بك..وانقطع الحوار.. وأعاد فخري السماعة.. ثم أسند رأسه إلى راحته في هدوء غير طبيعي.. وكأنه كان على موعد مع الحدث



فلم يبد عليه أي أثر للاستغراب، وجعل يتمتم:محضتهمو نصحي يمنعرج اللوى.فلم يستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد!.وما هي إلا لحظات حتى كانت سيارة عليها شارة الحرس الجمهوري تجتاز مدخل المزرعة لتستقر عند باب المنزل. ويهبط منها بعض الضباط لإبلاغه دعوة ( الزعيم ) .. وفي صمت كئيب يمضي معهم إلى السيارة، التي أخذت تنهب بهم الطرق، ثم تجتاز الشوارع، التي انتثر خلالها الجند بخوذهم الفولاذية وأسلحتهم الرشاشة.. حتى احتواهم القصر، الذي كان آخر عهده به يوم تلقى سمعه من سيده تلك الكلمة التي دفعته إلى عزلته ( .. كل شيء على ما يُرام.. ).وعلى الكرسي نفسه الذي غادر صديقه عليه ذلك اليوم.. استقبله صاحب الانقلاب في بشاشة صارمة وهو يقول: أهلاً بزعيم الشباب...وأجاب فخري بلهجته المطمئنة المرحة: ولكن عهد الشباب قد انتهى يا .. سيادة الزعيم



وعقب الزعيم وهو يهز يده: أجل.. لقد بدأ عهد جديد.. وعلى كل سوري أن ينصره بكل مواهبه. وطبيعي أن يكون فخري بك في مقدمة مؤيديه..وبعد لحظة صمت قال فخري: كل ما يملكه ابن سبعين مثلي أن يسأل الله لبلده الهداية والوعي الصحيح..وأردف الزعيم: أوليست حركتنا هذه طليعة الاستجابة لدعائك!.- ذلك ما أتمناه.. ولكن..- ولكن .. ماذا؟!..وبصراحته التي لم يستطع التخلي عنها يوماً قال: لقد فقدنا القدرة على الرؤية منذ اليوم الذين خرجنا على
الخلافة


0 Comments:

Post a Comment

<< Home

Free Web Counter
number of visitors numbers of hits
numbers of hits